
علاء رشيدي
كيف تتضمّن المقطوعات الموسيقية الخالصة قضايا سياسية ومقولات اجتماعية؟ نماذج من المؤلفات الموسيقية السورية المعاصرة.
هل تحمل الموسيقى معنًى أم أنها مجرد تشكيلات صوتية؟
على امتداد تاريخ الكتابات الفلسفية في علم الجمال الموسيقي، أو النقدية المتعلقة بطبيعة الفن الموسيقي وعناصره، يتكرر السؤال الجوهري المتعلق بإمكانية أن تحمل الموسيقى الخالصة مضمونًا أو معنًى. ويتكرر عبر النظريات الموسيقية سؤالٌ حول الموسيقى: هل هي مجرد تشكيلات صوتية تكتفي ببنيتها الموسيقية وتراكيبها السمعية، أم أنها -إضافة إلى ذلك- قادرةٌ على حمل المضامين والمعاني والمقولات؟ وطبعًا، يقتصر السؤال هنا على ما يُعرف بـ “الموسيقى المطلقة”، أو “الموسيقى الصافية”، أي موسيقى الآلات، ومن ثَمّ على فنّ المقطوعة الموسيقية، وذلك لتمييزها من الغناء، حيث تتألف الأغاني من كلمات، والكلمات هي حاملة للمعنى والمضامين، ولتمييزها من الأناشيد كذلك حيث إنها تخضع لتلك المعيارية أيضًا. إن السؤال عن معنى الموسيقى أو تجردها من المعنى أو المضمون يتعلق بالموسيقى الخالصة. هل هناك معنًى لما نسمعه من ألحان أو معزوفات موسيقية، أم أنها مجرد تشكيلات صوتية خالصة؟ هل يأتي المعنى من الألحان الموسيقية المجردة؟ هل تبثّ الموسيقى الأحاسيس والأفكار والانفعالات، أم أنها من نتاج ذهنية المتلقي، وهي غير موجودة في الموسيقى أساسًا؟
عبر التاريخ، تعددت الكتابات والتيارات والاتجاهات والمدارس الجمالية والنقدية، التي يمتلك كلٌّ منها وجهة نظر خاصة في الإجابة عن هذا السؤال. وعند متابعة هذه الموضوعة، نميّز بين تيارَين أساسيَين، ظهرا مع بدايات القرن العشرين: التيار الأول: Autonomy ; Formalist، أي المدرسة الاستقلالية أو الشكلانية التي يَعدّ مفكروها الموسيقى أصواتًا في حركة، ولا تعني شيئًا، ولا تحيل على الإطلاق إلى أي فكرة أو شعور أو إحساس من خارجها. وهذا يعني أن لا مضمون للموسيقى إلا الألحان السماعية نفسها. ومن أبرز كتّاب هذا التيار الناقد الموسيقي الألماني إدوارد هانزليك (1825-1904) مع كتابه الأشهر والأبرز (الجميل في النغم، 1854). أما التيار الثاني: Heteronomy، فمن أبرز أنصاره الفيلسوف آرتور شوبنهاور (1788-1860) الذي كتب بهذا الخصوص: “الموسيقى ليست مجرد أصوات في حركة، بل هي تشمل أفكارًا، انفعالات، وفلسفة أيضًا”. ونجد في التاريخ العديد من الكتابات الفلسفية والنقدية في هذا المجال، أبرزها نصوص جان جاك روسو، فريدريك نيتشه، آرنولد شوينبرغ، إيجور سترافنسكي، ببير شافر، وتيودور أدورنو.
تعبير المؤلفات الموسيقية السورية المعاصرة عن المضامين السياسية والقضايا الاجتماعية
منذ العام 2011، عرفت الفنون السورية المتعددة مرحلة جديدة في التزام الفن بالتعبير عن القضايا السياسية، الموضوعات الاجتماعية، والأحداث التاريخية. فأنواع الفنون السورية المختلفة: الفن التشكيلي، الغناء، الأدب، المسرح، السينما، كلها حاولت الابتكار والتجديد في التعبير عن الموضوعات السياسية المستجدة، وتجربة الوعي السياسي التي عاشها الشعب السوري، ومن ثم آثار القمع والاعتقال، وآثار الصراع المسلح والاقتتال الأهلي، وظاهرة النزوح الداخلي، والهجرة القسرية الخارجية، وصولًا إلى التعبير عن تجربة المنفى وأسئلة المكان والذاكرة، الوطن والحنين. كل الفنون المعروفة ابتكرت وجددت في سبيل التعبير عن هذه الموضوعات، عبر مساهمة الفنانين والفنانات السوريات الراغبات في تحميل الفن مضامين الالتزام والنضال السياسي. وبينما أسهم كلّ فن -بحسب عناصره وأدواته- في التعبير عن الموضوعات الجديدة، فإن السؤال يتعلق بالكيفيات، التقنيات، الأساليب التي اعتمدتها الأعمال الخالصة الموسيقية في التعبير عن هذه الحالة التاريخية-الفنية السورية. فكيف حمّل مؤلفو المقطوعات الموسيقية الخالصة أعمالهم الفنية مضامينَ سياسية، ثقافية، أو فكرية؟ سنحاول أن نطرح السؤال النقدي الجمالي التاريخي، عن مضامين الموسيقى أو تجردها من الإطار العالمي، على واقع الإنتاج الفني الموسيقي السوري المعاصر.
اللحن السياسي في المقطوعة الموسيقية
منذ العام 2012، بدأ المؤلف وعازف البيانو مالك الجندلي كتابة الأعمال الموسيقية التي ابتكرها خصيصًا لنصرة الحراك الثوري في سورية، وقد جمعها في ألبومه الذي حمل عنوان (حمص، 2012). ضمّ الألبوم 11 مقطوعة، سعى فيها المؤلف إلى تضمين أعماله السمفونية مضامين سياسية. في المقطوعة الأوركسترالية (الحرية، سمفونية القاشوش)، وهي مقطوعة لموسيقى الآلات الخالصة، يجعل المؤلف اللحنَ الأساس الذي يتكرر في المقطوعة لحنَ أغنيةٍ تحمل مضامين سياسية، وهي أغنية (يلا ارحل يا بشار) التي قدّمت في ساحات التظاهر في مدينة حماة، بأداء إبراهيم القاشوش (الشخصية ذات الحكاية الإشكالية حتى الآن). ما يهمنا هو تقنية المؤلف (مالك الجندلي)، حيث دمج في مقطوعة أوركسترالية موسيقية خاصة، لحن أغنية تحمل رأيًا سياسيًا والتزامًا سياسيًا. ورغب المؤلف أن تحيل مقطوعته إلى الموضوعات والقضايا التي تتبناها الأغنية التي دمج لحنها في المقطوعة، لتحيلان بدورهما إلى القضايا والآراء ذاتها. وبما أن الأغنية تحمل مضمونًا واضحًا من خلال كلماتها، فإن المضمون انتقل من الأغنية عبر اللحن الصوتي فقط إلى العمل السمفوني، وبذلك فإن النموذج المقدّم موسيقيًا هنا هو تضمين المقطوعة الموسيقية التي تبلغ مدتها (7 دقائق)، لحنًا يحيل إلى أغنية، يتبناها المؤلف ويتماهى معها في المضامين والمقولة.
التقنية ذاتها اتبعها المؤلف في مقطوعته الموسيقية-الغنائية: (مالنا غيرك يا الله) التي أصدرها بتسجيل منفرد. هذا العمل يتألف من الموسيقى والكلمات، إلا أننا نلمح فيه توظيف المؤلف الجندلي للتقنية نفسها، وهي تضمين مقطوعة موسيقية لحنًا يعود إلى ترنيمة، هتاف، أو أغنية ملتزمة، وهنا المثال عن هتاف (يا الله ما ألنا غيرك يا الله) الذي عبّر من خلاله المتظاهرون عن مقدار العزلة والقمع الذي يتعرضون له. أخذ المؤلف الجملة الصوتية الخاصة بهذا الهتاف، لتؤديها الآلات الأوركسترالية في مقطوعته، وظهرت بدايةً مع الآلات النفخية، قبل أن ترددها أصوات الكورال البشري في المقطوعة، لتتابع المقطوعة من بعدها في بنية التيمة وتنويعاتها، Theme & Variation، على لحن الهتاف نفسه، ليشكل البنية اللحنية لكامل العمل الموسيقي.
العنوان السياسي للمقطوعة الموسيقية
لكن ألبوم (حمص) للفنان الجندلي يحتوي على عدد من المقطوعات الموسيقية، التي رغب الفنان في أن يوحي من خلالها بموضوعات ومفاهيم أراد معالجتها، من دون أن يوظف تقنية إدماج لحن هتاف أو أغنية في ألحان المقطوعة. لكنه منح هذه المقطوعات عناوين تحمل مضامين يرغب في إيصالها. نذكر منها: مقطوعة بعنوان (زنزانة)، ويتبين من عنوانها إدانتها لممارسات الاعتقال التعسفي الذي مورس على المتظاهرين السوريين والناشطين السياسيين والحقوقيين، ولا شك في أن تأليف مقطوعة بهذا العنوان هو نوع من إدانة الفنان لممارسات الاعتقال والتعذيب. كذلك يضم الألبوم مقطوعة بعنوان (أمل)، وهي تعكس نظرة المؤلف التفاؤلية والنضالية تجاه التغيير في المستقبل، ومن بعدها مقطوعة (نبض سوري)، ومقطوعة بعنوان (سلام).
كذلك، هناك مقطوعتان أصدرهما المؤلف بشكل مستقل، وقد اختار لهما عناوين سياسية واجتماعية: الأولى بعنوان (الموت ولا المذلة)، وهي واحدة من الهتافات الجماعية التي ظهرت في مدينة درعا في 2011، ومقطوعة أخرى بعنوان (تحية إلى الربيع العربي)، ولم يوظف الفنان في هاتين المقطوعتين تقنية اللحن ذي المضمون السياسي، وإنما بقيت المقطوعتان في إطار الموسيقى الخالصة، وكلاهما من نوع الكونشرتو بين آلة البيانو والأوركسترا. وبذلك؛ نصل إلى مدخل آخر يمكّن مؤلف الموسيقى الخالصة من أن يحمّل مقطوعته بعدًا سياسيًا أو فكريًا، من خلال اختيار العناوين التي تحمل مضامين سياسية واجتماعية لها. وإذا لم يكن العنوان جزءًا من الجانب الموسيقي للمؤلفات الموسيقية، فإن عناوين الأعمال الفنية هي جزء من هذه الأعمال الفنية، مدخل لفهمها، وغالبًا ما تتضمن مفاهيم تسمح للمتلقي بتأويل العمل الفني من خلالها. فلا يمكن فهم الأعمال الفنية دون معرفة عناوينها المختارة من قبل مبدعيها ومبدعاتها. إن عناوين الأعمال الفنية التشكيلية، كاللوحات والمنحوتات، وعناوين الأعمال الأدبية والمسرحية والسينمائية، هي جزء من العمل الفني، ولا بدّ لأي عملية تأويل أو تحليل للعمل الفني من أن تتأمل العناوين التي تحملها، والتي بإمكانها أن تمنح الناقد والمتلقي إمكانية تأويل العمل الفني.
المقطوعات الموسيقية في رواية الأحداث السياسية
تميزت عازفة الناي والمؤلفة الموسيقية السورية الفرنسية نيسم جلال باكرًا بمحاولاتها تقديم مقطوعات موسيقية تحمل مضامين وأبعادًا سياسية، تتعلق بالحدث السوري منذ عام 2011. حيث أسست مع مجموعة من الموسيقيين خماسيًا، أطلقوا عليه (إيقاعات المقاومة)، دمجت مؤلفاته موسيقى بين الموسيقى التقليدية وموسيقى الجاز. ويبين الموسيقيون والموسيقيات المشاركون في هذا الخماسي أن الاسم الذي أطلقوه عليه يرتبط بالقضية السورية، وكذلك بالقضايا الإنسانية عامةً، حتى مقاومة الظواهر العنصرية التي بدأ المجتمع الفرنسي يعانيها ويستدعي النضال في سياقها أيضًا.
في عام 2016، أصدرت ألبومها الثالث بعنوان (الموت ولا المذلة)، وكما يظهر فقد اختارت من خلاله أن توجه تحية إلى شهداء الثورة السورية. تكتب (نيسم جلال) في التعريف بألبومها: “موسيقى تعكس العالم الجنوني المتشكل من التداخل بين العنف الجنوني من حولنا والجمال الكبير. موسيقاي تتحدث عن الغضب، عن التمرد، عن الألم، وعن الحرب، ولكن أيضًا تتحدث عن الحب، الشجاعة، شجاعة الرجال والنساء المقاومين، الذين أشعر بالانتماء إليهم وإليهن. موسيقاي تتحدث عن ألم شعب، لأنه أيضًا ألمي الخاص، تتحدث عن شجاعة السوريين والسوريات التي أقدّرها، تعبّر عن الحب الذي أتبادله مع الآخرين، والذي لمسته وعشته معهم. أحاول التعبير عن المشاعر الجمعية السورية، لأنها مشاعري الخاصة أيضًا، وأحاول أن أروي حكاياتي الخاصة، لأنها أيضًا حكايات المجتمع السوري بأجمع”. وتعبّر الفنانة بوضوح، في لقاءاتها الصحفية، وفي البيانات المرافقة لألبوماتها، عن الجانب السياسي والاجتماعي لمقطوعاتها الموسيقية، وهي تسعى لأن تضع فنها، قدراتها التأليفية، وتقنياتها الأدائية، في سبيل الدفاع عن القضايا التي تؤمن بها والأفكار التي تنتمي إليها.
يتألف ألبومها من تسع مقطوعات للآلات التالية: الفلوت، العود، الساكسفون، الغيتار، التشيللو، والكونتبرباص، إضافة إلى الآلات الإيقاعية. إن الإشارة التي تمكّن المتلقي من إدراك المضمون الذي ترغب في إيصاله الفنانة تكمن في العناوين، المقطوعة الأولى بعنوان (سي 4 الحب والحرب) والسي 4 هي مادة كيميائية استُخدمت في الحرب السورية، وأدت إلى مقتل العديد من الضحايا. المقطوعة الثانية إلى مدينة (البيضاء) التي ظهر منها فيديو القمع الأول الذي تمارسه السلطات الحاكمة تجاه المدن والبلدات الثائرة. والمقطوعة الرابعة مهداة إلى (أبطال كفرنبل)، وهي بلدة سورية عرفت بفاعليتها خلال الاحتجاجات والنشاطات الفنية التي تحمل الحس الثوري، وقد تميزت بفكرة اللافتات والرسومات الساخرة التي تُصمم وتُكتب في كفرنبل، ثم تُصور فوتوغرافيًا لتحمل وتنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى السوريين والعالم أجمع عبر شبكة الإنترنت، وقد تميزت فنون (كفرنبل) بالسخرية، وبالوعي السياسي العميق، وبالالتزام بمبادئ الحرية والمحاسبة للجميع دون تميز، وصولًا إلى نقد القوى الثورية نفسها. المقطوعة السادسة بعنوان (حلب)، وتقول عنها الفنانة: “مقطوعة لآلة فلوت وحيد، تؤدى باحترام شديد للتقاليد، هي تكريم لمدينة حلب، كمرجع لتراث الموسيقى العربية، أردتُ إحياء حلب المدينة التاريخية الكبيرة، من خلال الموسيقى، هي المدينة التي عانت الحصار والدمار بشكل كامل”. أما المقطوعة الأخيرة، فهي التي يحمل الألبوم عنوانها، لآلة الفلوت المنفردة بعنوان (الموت ولا المذلة، تحية إلى شهداء الثورة السورية)، وتقول عنها الفنانة: “إنها مقطوعة تحكي قصة الثورة، يقظة الشعب، إرادته المنتهكة، تردده، التظاهرات السلمية، القمع، ومن ثم الحرب”، وتصفها بالمقطوعة الموسيقية التصويرية.
في مقالة بعنوان (نيسم جلال: موسيقى الغضب والحزن والألم) يبين الناقد أحمد الباشا البُعد الحكائي والشغف بالسرد في مقطوعات الفنانة، فيكتب: “كل مقطوعة منفردة تبدو كأنها سيناريو يحتوي حبكة درامية متصاعدة. ففي مقطوعة (الموت ولا المذلة) يندثر الهدوء الموجود في الخلفية مع الأداء الفردي لآلة الفلوت، ثم تتالي صيحات الغضب، قبل أن يخيّم مشهد حزن طويل لا ينتهي بانتهاء المقطوعة”. وعبر هذا البعد الحكائي-السردي، تمكنت المؤلفة من أن تبث مقطوعاتها الموسيقية مع ما ترغب فيه من التعابير، الانفعالات، والمشاعر التي تتناسب مع الموضوعات المختارة في كل منها. وتقول الفنانة نيسم جلال في ذلك: “في كل مقطوعة، أجرّب أن أروي، لأن الموسيقى لغتي، فلا أحاول أن أحصر المستمع في طريق تخييليّة واحدة، ولا أن أترك عملي من دون ناظم حكائي، لكن أسعى في كلّ عمل إلى أن أمتلك حكاية ذات خطوط وملامح تتجدّد عند انتهاء كل عملية سماع، من دون أن تبقى رهينة الاستماع الأول”. ومن خلال هذا السرد الحكائي تروي الفنانة مشاعر الغضب، تبتكر صوتيات الألم، وتبث الجانب الوجداني الشاعري في مقطوعاتها. وكأن تقنيتها هي جعل مؤلفاتها الموسيقية قائمة على رواية الحكايات التاريخية، ورواية الأحداث السياسية والاجتماعية المتعلقة بالثورة السورية.
المضمون السياسي كمفهوم مُلهم للمقطوعة الموسيقية
في العام 2016، قدم المؤلف الموسيقي وعازف العود مهند نصر مشروعه (همسات صاخبة)، وهو عبارة عن ألبوم موسيقي تعبيري يضمّ ثماني مقطوعات موسيقية مؤلفة لآلتي العود والإيقاع، كتب عنها الفنان: “هي ثماني حالات شعورية متناقضة، نمرّ بها يوميًا مبنية على ثمانية نصوص أدبية. المشروع عبارة عن إيحاءات شرقية ممزوجة بزوايا نفسية منفرجة وحالات شعورية متعددة ترصدها آلة العود، بوصفها رمزًا لحضارة الشرق وحاضنًا لحضارة الآخر. يجسّد المشروع مجموع الهواجس، والانفعالات التي يمرّ بها المؤلف في تجربة الحرب، والهجرة القسرية، ويبرز المشروع التجارب الإنسانية التي أثقلتها الحروب والغربة وداهمها الانتظار والحنين”. وبذلك؛ يقدّم المشروع الفني تقنية جديدة في التأليف الموسيقي، تسمح للمؤلف بأن يبث آراءه، موضوعاته، والأجواء التي يرغب في تجسيدها، وذلك من خلال تحديد مفاهيم ثابتة تكون الأساس في عملية التأليف.
انطلق المؤلف مهند نصر في تأسيس مقطوعاته من مفهوم محدد رغب في التعبير عنه، فجعله أساسًا لبنية العمل الموسيقي. المفهوم المُستلهم هو رغبة التعبير عن التناقض اليومي الذي يواجهه الموسيقيون، خلال محاولتهم لإعلاء موسيقاهم على صوت الحرب، لتجسيد ذلك التناقض الأبدي بين الحرب والسلم، الفن والسلاح، النغم والقصف، والتناقض الواضح في عنوان الألبوم الذي يجمع متناقضي الهمس والصخب. يشرح الفنان مهند نصر فكرته الأساسية: “يستدعي العمل في الموسيقى تدريبًا يوميًا، لصناعة موسيقى جديدة للجمهور. ولتحقيق ذلك، يحتاج الموسيقيون إلى الاستقرار الذي يساعدهم في تركيز وقتهم وجهدهم على تأليف الموسيقى. وهذا مناقض كليًا لواقع الحرب. إن فكرة مقطوعات ألبوم نشأت من هذه التناقضات لتسليط الضوء على أي عمل إبداعي في زمن الحرب. فكل موسيقي ورسّام وممثل، بل كل فنان، يسعى إلى خلق واقع أفضل من واقع الحرب. ومع هذا السعي، تتحول أصوات الفنانين إلى همسات في وجه صخب الحرب وعنفها”. ومن هذه الفكرة، أي التناقض بين صوت الفن وصوت الحرب، تُستلهم ألحان وإيقاعات وعوالم المقطوعات الموسيقية التي يضمها الألبوم. ومن ثمّ فإن المؤلف الموسيقي هنا يجعل المفهومَ المُلهِمَ في ابتكار المقطوعات وكتابتها الموضوعة التي يريد التعبير عنها. ذلك ما يطلق عليه في المجال الفني والأسلوبي “التأليف المفاهيمي”. وهذا التأليف حاضر في الأنواع الفنية الأخرى، فتُعرف الرواية المفاهيمية، النص المسرحي المفاهيمي، والفن المفاهيمي في الفن التشكيلي. وهنا يطبقه مشروع (همسات صاخبة) على مجال تأليف الموسيقى القائمة على مفهوم أساسي جوهري.
وفي هذا السياق، يأتي المشروع الموسيقي (صوت مهاجر) للفنان إبراهيم كدر، المشروع الذي سيركز على موضوعات جديدة في التجربة السورية، يكتب الفنان في وصف مشروعه: “هو مقطوعةٌ موسيقيةٌ مؤلّفة من 3 أقسام، تُعبّر عن حالة المواطن السوري قبل عام 2011 وبعده، مرورًا بكل الأحداث المروّعة التي عاشها، وذلك باستخدام أصوات ممتدة لآلة الـ “كوله”، في البداية، ثم تتطور الألحان، لتصبح غير مكتملة وغير متجانسة هارمونيًا، وتميل إلى الموسيقا الصاخبة. أرغب هنا في تصوير الحرب السوريّة، وما نتج عنها من عنف سبّب حالات نزوح داخلية وهِجرات خارجية. لتأتي تاليًا أغنية ذات طابع إيقاعي ولحن راقص، يتباطأ تارةً ويُعزف بحزن وتسارع تارةً أخرى، فاتحًا الطريق للحنِ آخر، مبنيًّا على آلات هارمونيّة مفتوحة، ومعبرًا عن الخيارات المعقّدة أمام المهاجر والمصاعب التي تنتظره، سواء على طريق الهجرة أو في بلاد اللجوء”. ولا شك في أن المفهوم المفتاحي في هذا العمل الموسيقي، وهو يتبين من خلال عنوان المشروع، هو المشاعر، الانفعالات، والتجارب التي تفرضها الهجرة والنزوح القسري على الإنسان السوري. إنها مقطوعة تستلهم مفهومًا محددًا لتكون منطلقًا بنيويًا لعملية التأليف أو الابتكار الموسيقي، لتعبّر عن آلام، إشكالات، وصعوبات تجربة الهجرة القسرية والنزوح الهارب من الموت.
إلهامات المنفى، الذاكرة، الحنين في التأليف الموسيقي
ينقلنا الألبوم الموسيقي الأخير للمؤلف وعازف الكلارينيت كنان العظمة، وهو بعنوان (سماء وعرة)، إلى موضوعة جديدة في التجربة السورية، هي تجربة المنفى، وتشوش الذاكرة، وصولًا إلى عذابات وهواجس الحنين. صدر الألبوم الموسيقي العام الماضي، وقد منحته لجنة Opus الكلاسيكية الألمانية جائزة العمل الفني للعام 2019. يتألف الألبوم من جزأين: الأول يضم أعمالًا من تأليف الفنان (كنان العظمة)؛ والثاني يضمّ مؤلفات ثلاثة مؤلفين موسيقيين سوريين آخرين: (ضياء السكري، زيد جبري، كريم رستم). مجموعة الأعمال الموجودة في الألبوم هي ستة أعمال، لكن اثنين منها فقط أُلّفا بعد العام 2011، وهما من تأليف كنان العظمة وسنتوقف عندهما: الأول بعنوان (متتالية ابن عربي: 3 حركات)؛ والثاني بعنوان (السياج، سطح البيت والبحر البعيد، 5 حركات)، وهي سوناتا لآلتي التشيلو والكلارينيت.
يفتح الفنان نصّ الكتيّب المرافق للألبوم باقتباسات من كتاب (تأملات في المنفى، إدوارد سعيد، 1984)، فيقتبس منه: “بالنسبة إلى المنفي، فإن عادات الحياة، الأنشطة، والتجارب الشعورية التي يعيشها في المجتمع الجديد تتحرك وتنشط بعكس الذاكرة المتعلقة بالمكان السابق (المكان الأصل الذي تركه المنفيّ). ومع ذلك، فإن العالمَين القديم والعالم الجديد يظلّان فاعلين، مؤثرين، وحيويين في ذهن المنفي. لا شك في أن موضوعات المنفى، العلاقة مع الذاكرة، تداخل الذكريات بين العالم الجديد والقديم، كلها موضوعات طارئة على تجربة الفنانين السوريين، وها هي أعمال الموسيقي (كنان العظمة) تحاول التعبير عنها، وهو يصرح في أكثر من لقاء ومقابلة بأنه لم يتمكن من زيارة وطنه الأصلي منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، وما تلاها من أحداث عنفية. ويكتب الناقد آراغو سليمان عن الألبوم: “الوطن دائمًا حاضر ومراوغ في هذا الألبوم، الهنا والهناك، اللاحق والآني، يجمع الضياع إلى العثور على الوطن، هو ألبوم يجمع بين البحث عن الوطن والوطن نفسه”. تستلهم (متتالية ابن عربي، 2013) عوالم الفيلسوف والشاعر الصوفي (ابن عربي). ويحتوي الكتيّب المرافق للألبوم اقتباسات من ابن عربي: “السماع منشأ الوجود فإن كل موجود يهتز.. كلّ حبّ يكون معه طلبٌ لا يعوّل عليه.. كلّ شوقٍ يسكن باللقاء لا يُعوّل عليه”.
في المقطع الأخير من الاقتباس النصي من ابن عربي، نقرأ عن حالة الشوق الحنين الذي لا ينتهي بلقاء. تتألف المتتالية من ثلاث حركات: الأولى (Prelude، مقدمة أو افتتاحية موسيقية، 6 دقائق) تبدأ مع الآلات الوترية وخصوصًا آلة التشيلو، لتنتقل إلى الجمل الخاصة بالكلارينيت، ومن ثم يظهر الصوت البشري مع المغنية (ديمة أوروشو)، يتم التعامل مع الصوت البشري باعتباره واحدًا من الآلات الموسيقية، بينما تردد عبارات الغناء الصوتي مقتطفات من شعر ابن عربي تتعلق بالوجود، بامتداد السماء، بالزمان؛ الحركة الثانية (Ricitation ، ترتيلة، 6 دقائق) هي أيضًا لأوركسترا وصوت بشري، تردد خلاله الأبيات المذكورة أعلاه من نصوص (ابن عربي)، وتركز في غنائها على العبارة الأخيرة: “كل شوق يسكن باللقاء لا يُعوّل عليه”. والحركة الأخيرة (Postlude، ملحق ختامي، 8 دقائق) تنسج الحركة اللحن بين الكلارينيت والوتريات، وتبرز آلة التشيلو في علاقتها مع الأوركسترا، لتنتهي القطعة على تناوب بين الصوت الإنساني والنفخيات.
المتتالية الثانية هي أحدث المقطوعات التي كتبها الفنان، وكان ذلك في العام 2017، وهي بعنوان (السياج، سطح البيت والبحر البعيد)، وهي سوناتا لآلتي التشيلو والكلارينيت. يصرح الفنان بأنه كتبها في بيروت، بينما كان يفكر بازدواجية شعوره بأن بلده قريب (تبعد بيروت من دمشق ساعتين من الزمن) ومع ذلك لم يقم بزيارة وطنه منذ خمس سنوات، إنها ازدواجية قرب الوطن مع صعوبة الوصول إليه التي يعانيها المنفي. يكتب الفنان: “هذا العمل الموسيقي يعبّر عن عشوائية ذاكرة الأفراد، وهو يروي حكاية صديقين يحاولان استذكار تفاصيل الوطن، يستحضران الذكريات التي تتقافز في ذاكرتهما بعشوائية، ثم يكتشفان في نهاية التجربة أن أقوى الذكريات هي تلك الأكثر بساطة”. وكما يتضح، فإن في المقطوعة جانب حكائي، وهذا يعني أن المؤلف استلهم حكاية صديقين منفيين يحاولان استعادة ذكرياتهما، لتكون الأساس الملهم للأفكار الموسيقية، والعوالم الشاعرية والذهنية لمقطوعته.
تتألف هذه المتتالية من خمس حركات: (استهلال، صدفة بحرية، مونولوج، رقصة، وخاتمة شعرية). يكتب عنها الموسيقي والناقد علي موره لي: “في Prologue عُزلةٌ للكلارينيت المنفرد، صوت داخلي يُسمع في عماء ما حوله. استبطان يبحث عن المكان، تبرق الذكريات بصوت التشيلّو كالإشارات، توقظ المتأمل، ليكتشف أن ذاته قد صارت في كون آخر. Ammonite صَدفة بحرية، إن تلتصق بقعرها الأذن، تسمع ضجيج زحام في أحد ميادين الشام. يبحث التشيلّو في Monologue عن الأصوات بين الأصوات، حتى يجد ضالته؛ الكلارينيت. في Dance ترقص الكلارينيت والتشيلّو نشاوى، أما عند Epilogue فتستريح الروح من عناء البحث، بعدما وجدت في آخر المسار أن المكان ليس سوى أمكنة، والذكريات بقايا صور”. يبيّن لنا نصّ الناقد (علي موره لي) الترابط بين الأشكال الموسيقية والهارمونيات اللحنية وبين الموضوعات والمشاعر المراد التعبير عنها في تأليف المقطوعة؛ فنركز في نصه على: عزلة المنفرد، الضياع بالعماء، البحث عن علاقة مع المكان، التداخل في العلاقة مع الذاكرة، الانتقال إلى كون آخر، ضجيج الحنين، والمكان ليس سوى أمكنة، والذكريات بقايا صور. كلها محاولات للتعبير عن العلاقة بين ما هو موسيقي وأدائي-عزفي، وبين الموضوعات التي أراد الفنان والمؤلف (كنان العظمة) التعبير عنها، وهي: المنفى، الذاكرة، الحنين، الوطن، والعلاقة مع المكان. لتكون هذه التجارب، الموضوعات، والمشاعر حقل موضوعات أعماله الموسيقية الجديدة.
قال الفنان كنان العظمة عن دور الفن في التجربة السورية: “أؤمن بأنّ التأليف الموسيقي حالة من الاستمرارية، حيث أتمنى أن تعكس الموسيقى التي أنتجها اهتماماتي وقضاياي الأساسية”، ومن هنا نتلمّس رغبة الفنان في تأليف أعمال موسيقية تحمل مضامين، مقولات، ومبادئ يتبناها الفنان أو يشعر بها: “لقد دفعتني الثورة السورية 2011 إلى مقاربة الفن بطريقة جديدة تمامًا، حيث لم يعد الفن فيها بالنسبة إلي رفاهية، بل هو الطريقة الأمثل للتعبير عن قضايانا: الديمقراطية، الحرية، الكرامة الإنسانية. الفن ليس منفصلًا عن الحياة، بل هو حامل للقيم الأفضل فيها. لذلك، فإن الفن بالنسبة لي هو أفضل ممثل للحضارة الإنسانية. الفن الذي أقدّمه لا يوقف رصاصة، ولا ينقل سورية إلى مرحلة من الديمقراطية، ولن يعيد الضحايا الذين فارقوا الحياة، لكنه، على الأقل، يمنحنا سببًا لاستمرارية العيش”.
نذكر أخيرًا أن كثيرًا من المؤلفين الموسيقيين استخدموا الفيديو المرافق لمقطوعاتهم، بما يعرف بـ “الفيديو كليب” أو الفيديو المصوّر للأغنية، لكي يحمّلوها مضامين سياسية واجتماعية، كما الفيديوهات المرافقة لمقطوعات (سمفونية القاشوش، الموت ولا المذلة، ما لنا غيرك يا الله)، للمؤلف مالك الجندلي، وفيديوهات مقطوعات (الموت ولا المذلة، تحية إلى شهداء الثورة السورية) للموسيقية نيسم جلال، وهي كلها أعمال موسيقية صدرت مرفقة بفيديو مصور للأغنية يحمل بطبيعته صورًا ومشاهد وإشارات بصرية، تؤكد آراء الموسيقي صانع العمل ورغبته في كيفية فهم العمل الموسيقي الخالص، وتضمّ الفيديوهات رسائل سياسية ومضامين موضوعات التزامه. ولم نتشعب في هذا المجال، لأن فن الفيديو فن خاص ومستقل عن الموسيقى، والكتابة عنه تشترط وجود المصطلحات النقدية البصرية المرئية والمسموعة في الآن عينه، وهذا ما لا يشمله النص المحصور على الفن الموسيقي دون غيره.
في هذا المقال، استعرضنا تنويعات عن التقنيات، الآليات، والأساليب التي ابتكرها ووظّفها واستعملها المؤلفون والمؤلفات من الموسيقيين السوريين، لتحميل أعمالهم الموسيقية مضامين سياسية ومقولات اجتماعية، يرغبون في التعبير عنها، ويريدون للفنون أن تحملها في رسالتها الجمالية والفكرية إلى المجتمع.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
22 كانون الأول/ ديسمبر 2020